فجأة، اقتحمتْ عزلته، جاءته حاملةً عنوانه الذي حفظته عن ظهر قلب، لتبحث في لوحاته عن سر إبداع تغلغل في عبق الأمكنة التي وشتها ريشته بتفاصيل عمرانية نثرها في اللوحات التي حكت تاريخ المدينة.
وجدت نفسها معه، وجهاً لوجه في مرسمه... أذهلها الرونق، وسحرتها الألفة، فراحت تجيل بصرها بين المنمنمات التي شكلها في زوايا لوحاته، بينما راح هو يتأمل هذا الملاك الذي انتشله من وحدته، وأضاء عتمة عمره في لحظة أشبه بالحلم.
جاءت إليه مع وفد من دولة أخرى، هدفه زيارة الأماكن الأثرية التي تعبق بها المدينة... فكان هو من اختير من بين أسماء الرسامين الذين وثّقوا المدينة وأزقتها وبيوتها القديمة في لوحاتهم الفنية، وكان هو من أسعفه حظه في استقبال تلك المرأة التي هبطت عليه في صمت المكان.
كانت تتأمل؛ هي وأعضاء الوفد الذي زاره في ذلك اليوم الخريفي من أيامه؛ أرجاء مرسمه، فتبدي إعجابها بهذا الجمال الذي سحر المكان بتفاصيله، بينما راح هو يتأمل الجمال الذي أودعه الله فيها...
في الجانب الآخر من المرسم وقفت أمام إحدى الخزائن التي حوت كتباً له، فسحبت بهدوء كتاباً لفت نظرها، وبدأت تقلّب في صفحاته، بينما راح هو يقلب نظراته على أصابع يديها التي تمسك بالكتاب، فشعر وكأنها تمسك بقلبه... انتقل بعينيه إلى معصمها اللدن، فشعر بنفسه إسوارة يلفّه... أحس بأنها تقرأ أسماء من مررن في حجرات عمره، تفتح صفحات أمسه صفحةً صفحة.. وشاء أن تترك الكتاب لتلتفت إليه، لتقرأ وجيب جسده، لتنظر إلى عينيه اللتين امتلأتا بهندسة جمالها... ولكنها لم تكن لتفعل ذلك؛ فرائحة النساء كانت تفوح من بين كل الصفحات...
أعضاء الوفد يتجولون بين لوحاته، وهو يتجول بين لوحات جسدها... لمح خاتماً ذهبياً في بنصرها الأيسر، فلم يعره اهتماماً، وراح يتابع تنشّق ذرات العطر التي نثرتها في زوايا المكان...
وعلى كرسي انتحى جانباً من المرسم، جلس الفنان متأملاً هذا الملاك الذي يرفرف أمامه.
لقد ملأت تلك المرأة خياله بأنوثة تشكلت كتمثال فينوس مفعماً بالروح وانحناءات الجسد، تمثال اتخذ حيزاً من فضاء المكان وفضاء الذاكرة...
- ما أجمل وجهها، وما أحلى الحروف التي تنطقها بلغة سحرتني مفرداتها... ماهذه التفاصيل الملائكية التي هندسها الرب فيها... ماذا لو كان شبيه خاتمها بإصبعي؟!...
ترى كيف يعاملها زوجها، هل يحملها بين كفيه كما لو أنه يحمل حريراً حين تنسل العتمة إلى زوايا بيتهما؟!.. هل يضعها فوق السرير كما لو يضع طفلاً صغيراً يخشى إيقاظه؟!.. هل يبدأ بعزف ألحانه على جسدها كفنان يعرف جيداً أثر الريشة على الأوتار؟!.. هل يعلمها بقدوم الصباح بقبلة يرسمها على شفتيها بحنان رسام؟!
تنتقل هي من زاوية إلى أخرى، وتتوالى الأسئلة في ذهنه هو... شاردة هي في تفاصيل مرسمه، وشارد هو في تفاصيل أمكنتها، يعبئ أنفاسه من عبق رائحتها، يتنشق عبير مسامها، ويذوب في عطرها الذي نفذ إلى أنفاسه كالنسيم، ويقيم حواراً طويلاً طويلاً مع شفتيها، فيبوح عناقه بوجد فاض في الروح، وكانت ضمة حنان لجسدها البض كفيلة بأن تحكي أسرار اشتياق لعطر امرأة يذيب ثلوجاً تكومت فوق جبال القلب.
- ماذا أفعل بهذا اللهيب الذي اجتاحني كالإعصار؟! هل أعترف لها بما يعتمل في نفسي؟.. وماذا لو صدتني أو صدمتني بردة فعل لا أقوى على تجاهلها ؟!... هل تشعر بي كما أشعر بها، ولكنها تتجاهلني بدلال أنثوي اعتدتُ عليه من نساء كثيرات؟! ولكن ماذا عن زوجها وربما أولادها؟! هل أجعلها على شفير مدينتين؟!
مضت وقد فاح العبير بنفسه، وضج المكان برائحتها... كل زاوية في مرسمه تحكي حكاية حنان لمستها من يديها... كل لوحة من لوحاته تبوح بلون عينين استرقتا النظر إليها... اللوحات تتحول إلى لون الخضرة الموشاة بزرقة السماء، والمكان يستحيل إلى ظل امرأة كانت قد طارت في زواياه بجناحي فراشة ترتل أناشيد الحياة.
في المطار، كانت هناك سيدة بلغت من العمر عتياً وبيدها طفل صغير يشبه أباه الذي ثوى بين جدران مقبرة قديمة، تبحث بين جموع الآيبين والراحلين، عن ابنتها القادمة من أعماق مكان بعيد، بينما راحت امرأةٌ آتيةٌ من مرسم فنانٍ تعبر فناءَ المطار من دون عطر أو ظلال